لواء الموت الطازج للضمير والإنسانية
"لا فرق بين خيانة الضمير وخيانة الواقع إلا التنفيذ"، الخيانة كلمة مريرة، نقولها ونُكررها على ألسنتنا ونحن نشعر بأثقال الألم والغدر والخِذلان تحني ضلوعنا، وتُمزق قلوبنا، وتُذيب أحلامنا، وتُشتت أرواحنا على قارِعة الحزن والتيه والانكسار، حتى تنطبع أحرفها الخمسة في مُقلتينا التائهتين، لنشعر بفقدان الثقة التام في العالم ومن ثم في أنفسنا، وفي قدرتنا على تجاوز أسوار الخيانة الشائكة دون أن نفقد إنسانيتنا.
الخيانة بكل صورها لا تتجزأ، فهناك من ارتضى على نفسه ذل خيانة الأب والأم والأخ والحبيب والصديق، وهناك من ارتضى على نفسه إثم وعار أكبر وهو خيانة الأرض والقضية والوطن، وقَسَم الحق والعدل والرحمة، الذي أقسم به وهو في بداية طريقه وحياته المهنية، ليمثل انتحاراً لمبادئ الحق والعدل والإنسانية بل والكرامة.
فبدلاً من أن يكون خليفة الله في أرضه ومِداد لهذا الشرف العظيم، من أجل خدمة الإنسانية، ونُصرة المظلوم، والانتفاض من أجل قيم العدالة والرحمة والإنسانية، يصبح طعنة غادرة في جسد هذا العهد والميثاق الشريف، وطعنة أخرى في أعناق من هم في أشد الحاجة إلى الإنصاف، ورفع أنياب الظلم والطغيان عن أرواحهم المُتعبة، التي أنهكها الفقر والحرمان والشقاء، الذي تنطق به أجفان أعينهم المُتهالِكة، ونظراتهم المسُتغيثة في صمتٍ مهيب.
فهناك من يخون كلام الله وهو يقرأه ويُعلمه للآخرين، وهناك من يخون آيات العدل ولسان الحق والمُفترض أنه ناطقه، وهناك من يخون قَسَم مراعاة المرضى ويحول أجسادهم المُنهكة إلى تجارة دنيئة في السر والعلن، وهناك من يخون صراخ المريض الذي يحتاج إلى دواء له مفعول يُريحه من الألم ولو لبضع لحظات، وهناك من يخون أحلام البُسطاء في العيش في بيوتٍ أدمية لتتساقط عليهم دون رحمة، وهناك من يبيع الموت البطيء في الطعام والشراب، وكلها صور بشعة للخيانة تندرج تحت لواء الموت الطازج للضمير والإنسانية.
ولكن ما معنى أن يكون الإنسان خائناً؟!، سؤال أحببت أن أطرحه على نفسي وعلى الآخرين عّلنا نصل إلى إجابات أكثر عمقاً من الإجابات المُعتادة التي نعرفها جميعاً، إجابة تُحلل فعل الخيانة، والمصير المحتوم لمن يقدم عليها، ويستسلم لضعف نفسه وشيطانها القائم كحسيس النار المُتأججة التي تلتهم الأخضر واليابس، ليرتكب أبشع جريمة في حق نفسه والآخرين من أجل دنيا فانية زائلة بين لحظة وضحاها.
يقول الكاتب الكبير غسان كنفاني "إن الخيانة في حد ذاتها ميتة حقيرة"، وأنا بالفعل لا أجد ميتة حقيرة أكثر من الخيانة، حتى وإن ظل صاحبها على قيد الحياة لسنين عِجاف تمر عليه دون توبة أو عودة إلى أعتاب الرحمن، فإنه قد سبق وأعلن حداداً على فطرته السليمة وخُطى الخير بداخله، بل وارتضى خيانة نفسه قبل خيانة كل شيء.
ويقول الكاتب صلاح خلف "أخشى ما أخشاه أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه الخيانة وجهة نظر"!!، وبالفعل قد أصبحت الخيانة في مجتمعاتنا العربية كلمة مُبررة ومُستساغة ووجهة نظر أيضاً، يستميت الملايين من أجل الدفاع عنها بالباطل وهو يعلمون، من أجل مصالحهم الشخصية التي تُقيد حناجرهم، بل وتسوقهم كالعبيد في طاحونة السلطة والحكومة والرئيس.
نعلم سبب الكارثة جيداً، ونتعامل بكل صور الذل والخنوع، نعلن تنديداً ماسخاً مكتوف الأيدي بسلاسل من المصالح، نشجب ونُدين ولا حيلة لنا غير ذلك، تلك هي أكذوبتهم البالية وشماعة بلادتِهم التي أعياها التكرار، في تناولهم لكل حادثه مريرة يمر بها وطننا العربي، فعند حدوث كل فاجعة أتذكر قول الفنان "أحمد زكي" في فيلمه الشهير "ضد الحكومة"، حينما قال "كلنا فاسدون كلنا فاسدون لا أستثني أحداً.. حتى أصحاب الصمت العاجز الموافق قليل الحيلة".
لتتحول "الأمانة" إلى مجرد شعار ماسخ يتغنى به الراقصون على الدماء، برداء الوطنية المُهترئ على شاشات التلفاز، وحلقات النقاش والجدال عديمة النفع، وكراسي القاعات المُنتفخة بملء الكذب والنفاق والرياء، لتصبح أرواح البشر التي كرمها الله عز وجل شأنه، ومنحها من نعمه وفضله ما لا يُعد ولا يُحصى لتحيا حياة آدمية كريمة سوية، مجرد ثمن بخس وتجارة دنيئة، حصادها شوك وحسك مُر كالعلقم.
يحسب أصحاب ذاك الحصاد الخاوية أوراقه، أنهم يُخادعون الله وما يخدعون إلا أنفسهم، ويحسبون أنهم يتاجرون بأرواح البشر السُذج الأبرياء، وهم يتاجرون بأرواحهم المُلقاة أسفل عجلات الدنيا الفانية ووهجها الأعمى، وأزيرها المُخيف الذي يبتلع أرواحهم دون توقف، في بقاع الخيانة المُوحِشة، وهم لا يشعرون .. وهم لا يفقهون.
يكتبون أسمائهم بحبرٍ أسود قاتم في صحائفهم، وصحائف الآخرين، ويسكبون بداخلهم شراب من حميم، يتنفسون هواء مأجور ملوثاً برائحة الدم، مُكبلاً بِحِبال ظلمهم الغليظة، لتصبح أصابعهم كالخناجر المسمومة أو أشدُ غِلظة.
يُغرقون أنفسهم في أفواهٍ كالِحة السواد من ويلات العار والذُل والهوان الذي يجتاح أجوافهم المُكتظة بآهات وعبرات المظلومين، وأنينهم المُدوي المُترامي في عنان السماء، ومع ذلك لا تمنعهم تلك الصرخات من الحصول على قسط نومهم الهادئ على أسِرة الذل، غير مُبالين بتلك الدماء والأشلاء المتناثرة هُنا وهناك.
يخدعون أنفسهم بالعدم ويحسبونه ثروة ونعيم، ويخدعون أنفسهم بويلات الحسرة والندم ويحسبونها راحة وسعادة بالغة المدى، يخدعون أنفسهم بالسراب ويحسبونه عين الوصول، إلى أن يلقون بأنفسهم في صحراءٍ قاحلة خَرِبة خاوية على عُروشِها، لتُلاحقهم أشباح أوزارهم كالأكفان المُتراصة من كل حدبٍ وصوب.
ولكن رغماً عن أنين الخيانة المُستطير، ستظل قضية الوطن والعدالة خالدة، وستبقى حكايا المظلومين إلى يوم الدين شاهدة، ليكون يوم المشهد العظيم برحمة رب العزة والجلالة ومشيئته، برداً وسلاماً وحبورا، وبشرى لأرواحهم التي ذاقت عذاب الدنيا الفانية، وصبِرت على عظيم ابتلائها، وظلت تستمسِك بالعروةِ الوثقى.
ويبقى السؤال.. أين المفر لكم؟! حينما يتم النفخ في الصور، ويُفنى كل من على الأرض لتصبح خاوية على عروشها، أين المفر لكم حينما يقول رب العزة والجلالة لمن المُلك اليوم؟، لمن الحكم اليوم؟، أين أنتم أيها الطغاة الظالمون؟!
أين المفر لكم حينما تنشر صحف أعمالنا التي طويت، لتعرض علينا فنقول يا ليتنا كنا تراباً أو هباءاً منثورا، ولا يسعنا في النهاية سوى أن ننادي كصاحب النون في بحر الظلمات والخوف
"أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ".
ليست هناك تعليقات