آخـــر المشاركـــات

الغرور والقصور




الغرور والقصور

عندما تتعاظم «الأنا» الذاتية فسوف يتضاءل أمامها كل اعتبار. وعندما يتعاظم «الغير» لا يبقى في القلب اعتبار للواحد القهار. فلا يمكن تعظيم شأنين مختلفين في قلب واحد. وهناك حالتان من التعظيم المزري بصاحبه تعظيم الأنا وهو الغرور وتعظيم الغير وهو القصور. 
يحرص المغتر بنفسه أن يكون في المركز والآخرون ينصرفون إليه طالبين النصح والتوجيه والرأي والمشورة مقدمين له المدح والثناء ، والأنظار مشدودة إليه رانية إلى نجمه المتألق ، فهو مركز لكل فكرة أو رؤية ، ومحور لكل مشروع أو حل ، ويربط الأشياء كلها بوجوده ، ليكون هو سر النجاح وبذهابه تفشل الخطط وينهار العمل . كما يحرص المغرور أن يكون في المقدمة يحتل الصفوف الأولى ويضيق صدره بالصفوف الخلفية ، وشعاره : أكون أولا في صدارتكم أو لا أكون معكم .
 وحين يكون في المقدمة فإنه يتمترس بموقعه ، ولا يدع فرجة لأحد أن يتقدم عليه حتى ولو أخفق ألف مرة . ويجتهد المغرور أن يكون في الطابق العلوي في كل حال فيتقلد المناصب العليا بجدارة أو بنصف جدارة أو بغير جدارة ، ويزيد من غروره حاجة الناس إليه بحكم موقعه ، وتتغذى نفسه على تزلف الناس إليه وتملقهم له ، وهذه الأجواء تمده بالراحة والاطمئنان على أن الأنا المدللة بخير وأمان . بالمحصلة لا يجد المغرور نفسه إلا في المركز والناس حوله ، وفي المقدمة والناس خلفه ، وفي الأعلى والناس دونه . وحين تتضخم الأنا بهذه الصورة لا يبقى في النفس اعتبار لأحد ولا تقدير لقيمة ، وكل شيء يبدو صغيرا ضئيلا.
وهناك مرض آخر هو تعظيم الغير يصيب موتور الكيان ومنخور العقل وهو مرض ناجم عن نقص في الكرامة وعوز المروءة . وهذا النوع من الناس لديهم فراغ فكري وخواء روحي ، ينزع إلى الامتلاء بأي هيكل بشري مرموق ولو كان جيفة ، فالأجواف العفنة لا تملؤها إلا الجيف النتنة ، وهنا تختلف الأدوار لنكون أمام حالة مغايرة للحالة الأولى , بحيث يبدو هؤلاء العبيد هم الزاحفين إلى الأعتاب لنيل الرضى والثواب من السيد الصنم المتضخم بالتهامه لذوات الآخرين , يتسابقون لتقديم قرابين الطاعة وطقوس الولاء ليبدو القاصر هنا فاقدا للقرار والإرادة والثقة والقيمة , منهزما محتاجا مضطرا متفككا مرتبكا جزوعا , يسارع إلى طاعته وينافس في خدمته ويتهم نفسه بالتقصير والخطأ ومن الصعب أن تقنع العبد بأن سيده يخطىء ويظلم , فما يفعله السيد هو الحق الخالص والصواب المطلق ولو كان إجراما وغدرا وعتوا وطغيانا , إن ذات العبد ذائبة في ذات سيده لذلك تراه لا يتخلى عن سيده لأنه بذلك يشعر بالضياع , ويستطيع العبد أن يمرر لسيده أكبر الخطايا لأنه في الأصل لا يراها كذلك , ويشعر العبد بعظمة كل ما يصدر عن سيده من مواقف وآراء حتى صمته وسكونه ينطويان على أمور جليلة , ويرى العبد فضل السيد عظيما وآسرا لكيانه حتى لو رأى أن السيد لص كبير أو مجرم كبير , ويستطيب القاصر عذاب سيده ويستعذب عقابه , ويرى في ظلم سيده العدل المطلق , ويلوم نفسه حين يقع عليه ظلم سيده , والعبد يزداد عبودية مع ازدياد عنف سيده بل ويشفق على سيده أن يصيبه مكروه أو خسران حتى وهو يظلمه , ولا يجد العبد ذاته إلا بمزيد من العبودية والذوبان والتلاشي , ويكتفي العبد من سيده بشيء من الرضا أو اللطف حتى يشعر أنه في نعيم مقيم , والعبد القاصر محتاج إلى سيده في اتخاذ القرارات كقرار التغيير والتحول والإصلاح والصيرورة , كما يبدو القاصر عاجزا عن القيام بأي مبادرة لأنه مسلوب الإرادة , فلا يستطيع أن يختار إلا بإشارة من الصنم , وليس بوسعه اختيار لحظة البدء والنهاية والتدخل والانسحاب , لأنه ملتزم بحرفية النص من غير تصرف ولا اجتهاد , والقاصر لا يثق بنفسه لأن ثقته ذهبت كلها إلى الوثن المعطر بالبخور ولا يشعر بكيانه لأنه ذائب في برنامج سيده , وهو في حالة انعدام للوزن لا تتيح له التماسك أمام كل متغير أو مواجهة وهو يتخلى عن يقينياته مقابل أوهام سيده , والقاصر لا يشعر بقيمته فهو عبد قد باع نفسه بثمن لم يحدده هو إنما حدده سوق العبيد , ولا يتلمس ذاته إلا بتنفيذ المطلوب منه , ولو كان المطلوب مهينا , وعندما وقع في كنف سيده لم يعد يرى في الوجود أعظم منه ولا أجل من قدره , يرى إكرام سيده كبيرا ورضاه نعيما وقسوته نعمة وتعذيبه عذوبة وخطأه صوابا وكلامه حكمة وموقفه منهجا .
فإذا كان الغرور تضخيماً للذات بما ليس فيها… فإن القصور إفراغ للذات من أي شيء فيها.. والاعتدال أن أكون أنا كما أنا.. عارفاً قدر نفسي طالباً رحمة ربي..
 فلا غرور و لا قصور وإنما نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء

ليست هناك تعليقات