آخـــر المشاركـــات

كيف أضرت ظاهرة "أسلمة الثورة" بثورة الكرامة

 





ليس من المبالغة القول بأن ظاهرة «أسلمة الثورة السورية» هي أهم سبب في تعقيد المشهد السوري وتأخر الحسم وارتفاع كلفة الحرية، وذلك لأن ظاهرة الأسلمة أنتجت عوامل هدم أخرى أنهكت الحراك الثوري وألحقت به ضرراً كبيراً.

لا يمكن اعتبار الأسلمة هي المفهوم المقابل للعلمانية مطلقاً، فليس مطلوباً من الناس الوقوف أمام أحد خيارين: الأسلمة أو العلمنة، لكن المقصود بالأسلمة هو المفهوم المقابل لـ «الوطنية»، وبناء عليه يمكن القول: إن أسلمة الثورة هي طبع الثورة السورية بالطابع الإسلامي من حيث المنطلق، والمسار، والأهداف. والأسلمة- بهذا المعنى- هي تخطيط للفشل والانغلاق والانسداد، ومشروع خاسر ومخسِّر، داخلياً وخارجياً.

فمن حيث المنطلق: يعلم الجميع أن الثورة السورية انطلقت لأسباب إنسانية عامة مرتبطة بقيم الحرية والكرامة والعدالة والمساواة، ضد نظام فاسد مستبد لا يمت للإنسانية ولا إلى مصلحة الوطن بأدنى صلة، ولا يقيم لآدمية الإنسان أدنى اعتبار، اندلعت «ضد الظلم لا ضد الكفر». وبهذا الفهم لثورة الحرية والكرامة نكون قد فتحنا باب الثوران لكل السوريين لا لفئة محددة، فمعظم السوريين نالهم من ظلم النظام الشيء الكثير في حق الحرية والتملك والتعبير والموقف والرأي.

والحديث عن ثورة ضد «الكفر» لا معنى له مطلقاً لأن «الكفر» أصلاً مسألة فكرية تعالج بالبرامج الدعوية لا بالثورات الشعبية. والنظام القاتل سيرحب قطعاً بفكرة أن تقاتله كافراً، ويغتاظ من فكرة مقاتلته ظالماً.. فالحالة الأولى تخدمه كثيراً لجهتين:

لجهة أن الثورة تحارب المخالف في الرأي وهذا «إرهاب» من شأنه تعزيز موقف النظام الذي مفاده: أن في سورية نظاماً علمانياً أو ديمقراطياً، يحارب جماعاتٍ تكفيرية إرهابية طائفية وهذه الحالة لا تشبه «ثورة الشعب السوري» لا من قريب ولا من بعيد.

والجهة الثانية أن النظام «الكافر» سيجد نفسه جزءاً من أغلبية «القوم الكافرين» في العالم، من «يهود ونصارى وبوذيين وشيوعيين..»- وكل ذلك وفقاً لدعاة الأسلمة- وبالتالي فهو مستأنس بالتشارك مع الأغلبية العالمية، وليس منزعجاً من تهمة «الكفر». وعندئذ يصبح الشعب السوري الثائر هو المعزول والأقلوي، ولن يتعاطف العالم «الكافر» معك عندما تقاتل نظاماً كافراً، لكنه سيقف معك ضد الظلم.

لكن الحالة الثانية وهي «الثورة ضد ظلم النظام واستبداده» هي التي تمنح الثورة شرعية إطلاقها، ولا أحد في العالم يرفض فكرة محاربة الظلم والعدوان، وسيكون النظام عندها معزولاً ومداناً وستجد الثورة لها الكثير من المؤيدين، حتى لو كان الظلم رائجاً في هذا العالم الجائر لكنه مدان رغم رواجه ولا أحد يفتخر به.

وبناء عليه فإن النظام يقبل بأن يكون كافراً بل ويفتخر بذلك ولا يرضى أن يكون ظالماً لأنه يعلم أنه لا توجد محاكم تحاكم الكفار بينما هناك محاكم تحاسب الظالمين، فالكفر وجهة نظر- كما يراه الكثيرون- لكن الظلم ليس وجهة نظر قابلة للنقاش.

ومن هذا المنطلق يبدو واضحاً أن الثورة ستحظى بإجماع وطني ودولي حين تكون ضد الظلم، وستكون معزولة داخلياً وخارجياً حين تكون ثورة ضد الكفر، وهو الأمر الذي يرفضه «أحرار الثورة».

ومن حيث المسار: فقد أخذت الثورة السورية مساراً وطنياً جامعاً، حيث شارك في المظاهرات السلمية كل أطياف الشعب السوري على درجات متفاوتة لأسباب يمكن تفهّمها. وقد خرجت المظاهرات السلمية من كل مكان يتيح للناس التجمع والتجمهر كالمساجد والمدارس والمعاهد والجامعات. ثم توالت الانشقاقات من جهات مختلفة، وبرزت النشاطات الثورية الجامعة في الداخل والخارج لا تفرق بين طيف معارض وآخر، وحدث ذلك الانقسام العفوي المشرّف في صفوف الشعب السوري والنخب، ما بين «مؤيد للنظام ومعارض له، ثائر عليه». أما المؤيدون فقد انحازوا إلى خيار الجريمة، والعبودية، والطائفية، وحرق البلد، وأما المعارضون الأحرار فقد انحازوا إلى خيار الحرية والكرامة وأنسنة الإنسان والبناء. لكن الأيدي الآثمة عملت على تقسيم السوريين ما بين «مسلم وكافر»، أو ما بين «إسلامي وعلماني» لتزيد من حالة الانقسام غير المبرر ولا المفيد.

ومن حيث الأهداف: فقد تحددت ملامح أهداف الثورة من بواكير انبعاثها، متمثلة بإسقاط النظام القاتل، ومحاكمته، وإقامة دولة العدالة والقانون، وبناء حياة كريمة لا يطلق على الإنسان فيها سوى اسم واحد ووصف وحيد.

لكن الذي حصل بالضبط هو أنه بينما كان النظام القاتل يقمع الثورة السورية ظاهراً فوق الأرض كان هناك من يعمل على اقتلاع جذور الثورة من تحت الأرض، مستفيداً من انشغال الناس بالحدث المهيب، واحتفائهم بروعة اللحظة التاريخية البديعة، وتذوّق طعم الحرية ولو كان ممزوجاً بمرارة الحزن والأسى على سقوط الشهداء بالآلاف المؤلفة.

وحتى لا يكون الكلام منفتحا على العموم ولكي لا يترك المجال للتخمين، لا بد من تثبيت حقيقة أن تيار «الإسلام المُسَيَّس» الحالم بالسلطة والمتلهف للمنصب هو من يتحمل مسؤولية «أسلمة الثورة السورية» بالتزامن مع تخطيط وارتياح ودعم من النظام الذي استثمر في هذا الطيش كثيراً.

فمن حيث المنطلق فقد انطلق هؤلاء من مبدأ أن لهم أفضلية السبق في مقارعة النظام في ثمانينات القرن الماضي، على ما شاب تلك الحقبة من تداخلات لا مجال لذكرها، وكأن لهم ديْناً على الشعب السوري وقد آن الأوان لاستيفائه بالوصول إلى السلطة، مشحونين بشعور استعلائي خادع بأنهم هم الأمناء الحقيقيون على الأمة بتفويض عُلوِيّ مقدس.

ومن حيث المسار فقد عملوا على طبع الثورة بالطابع الإسلامي في المظهر والمضمون، فكانوا حريصين على اقتصار خروج المظاهرات من المساجد مطلقين شعار «لا دراسة ولا تدريس حتى يسقط الرئيس» ليردده الناس دون أن يعلموا أن من وراء تلك الشعارات أهدافاً مشبوهة ترمي إلى صبغ الثورة بطابع إسلامي. فمن المدارس والجامعات يمكن أن يخرج المسلم والمسيحي والدرزي والعلوي، أما المساجد فلا يخرج منها إلا المسلمون، وحين يسقط الشهداء  فلن يشيع جنازاتهم إلا المسلمون. لتنكمش الثورة على المسمى الإسلامي فحسب، ويحرم الآخرون من شرف الانحياز إلى الضفة الصحيحة من التاريخ، ثم يسهل على النظام اقتناصهم وإغراؤهم للذهاب إليه مستفيداً من ماكينته الإعلامية وألاعيبه الاستخباراتية.

والأمر الآخر الذي ظهر في تحكم «دعاة الأسلمة» في مسار الثورة هو ذلك التفنن في إطلاق أسماء «أيام الجمع» وكتابة اللافتات، فبدلاً من تحميلها رسائل سياسية هادفة، راحوا يطلقون الأسماء الإسلامية مستغلين عواطف العامة، حيث لا يستطيع أحد أن يرفض «المقدّس الديني» خشية الوقوع في مخالفة شرعية تستدعي غضب الله.

وفي الجهة المقابلة فقد استغل القوم تجمّع المال السياسي لديهم من بعض الدول المفتونة بتيارهم لينفقوا هذا المال على من تجري في عروقهم دماء خاصّة، أو من يمكن تأليف قلبه على هذا الحزب بقليل من المال، مقابل منح الولاء، ثم يقبلون منه أن يجلس في بيته ساكناً صامتاً لا يكلف خاطره حتى عبء متابعة أخبار «الملحمة الدامية».

وبعدها دخلت الثورة في مربع التسليح فشكلوا الكتائب والفصائل المطلوب منها تجميد الصراع قبل أن يدعو «ديمستورا» إلى تجميده بألف سنة، فكان مطلوبا من العناصر المحسوبة عليهم تخزين السلاح إلى حين قدوم اللحظة الحاسمة ليعملوا على الإمساك بمفاصل الحياة والسلطة، فمن إذاً سيطلب منه إسقاط النظام؟.

هنا توجه الإخوان إلى دعم التيارات السلفية التي تدور في فلك القاعدة وأخواتها، ليتولى هؤلاء قيادة مسرح القتال وليحظى الإخوان بقطف الثمار، فانفتح المشهد السوري على بوابات الجحيم المستعر، حيث اشتعلت الحرائق في أرض الوطن البريء وانكشف المشهد عن حريقين كبيرين: الحريق الطائفي والحريق التطرفي، والسحرة الفجرة يدفعون بالوقود لتزداد النار ضراما واستعارا، حارقة لحوم البشر، حتى أمكن القول: إن النظام هو المسؤول الأول عن إشعال الطائفية ويساعده الإخوان في ذلك، وإن الإخوان هم المسؤولون عن إشعال نار التطرف ويساعدهم النظام في تلك المهمة.

ظهر التقارب السحري بين الإخوان المسلمين والتيارات السلفية الجهادية، التقارب الذي أفضى إلى دعم الإخوان للسلفيين بمن فيهم تنظيم (داعش) سيء الفعل والصيت، ومارس الإخوان دورا معقدا في هذا الصدد، فقد جمعوا المال من دول وكيانات وأفراد ترغب بدعم السلفية، ومن آخرين لا يحبون دعم السلفية، لكن بالحيلة المبطنة التي اكتشفتها بعض الدول متأخرة ووضعت حدا لها، فما أكثر المال الذي جمع باسم الجيش الحر وباسم الثوار لكنه ذهب إلى الإسلاميين ليتحول جزء كبير منه لاستهداف الأحرار الذين جاء المال باسمهم.

بعدها انقسم المشهد إلى قسمين: فصائل إسلامية يمكن تسميتها بـ (القاعدة وأخواتها)، يتولون إسقاط النظام عسكريا، وفصائل إسلامية معتدلة إخوانية تتولى الانقضاض على السلطة بعد سقوط النظام، في صفقة غير معلنة وقسمة غير عادلة، حيث يكون  لقوم نصيب (الشوكة) ويكون  لآخرين نصيب (الكعكة).

كيف حسبها الإخوان المسلمون؟

لقد قدر الإخوان المسلمون أن الناس سيذهبون إلى صناديق الاقتراع، وأنهم سيكونون الأوفر حظا من غيرهم لأنهم الحزب الإسلامي الوحيد المنظم ولأنهم وضعوا أيديهم على قطاعات ثورية مهمة كالمجالس المحلية والحكومة المؤقتة علاوة على تصدرهم للمعارضة السياسية متمثلة بالمجلس الوطني والائتلاف، كما أنهم ممسكون بحيز واسع من الإعلام الثوري الذي يمكن أن يتحول إلى مراكز للدعاية الانتخابية لهم، إضافة إلى وضع أيديهم على أموال الإغاثة التي يمكن أن تتحول إلى أموال انتخابية لشراء الذمم المحتاجة إلى المال أصلا، ومما يزيد من فرص الإخوان بتصدر العملية (الشيطاقراطية) تلك النفوس المشحونة إسلاميا، فلن تنتخب حزبا علمانيا ولا ديمقراطيا ولا ليبراليا ولا مدنيا ولا وطنيا، وكيف يفعلون ذلك وقد عمل الإخوان على شيطنة هذه المسميات وتصنيفها على أنها من المكفرات المخرجات من الملّة ومن موجبات غضب الله؟. في الوقت الذي نسي فيه الأئمة السابقون إدراجها تحت هذا الباب كالغزالي والطحاوي وابن تيمية.

لكن الإخوان المسلمين الذين وضَّبوا أوضاعهم داخليا بهذه الطريقة لم ينسوا أن يرتبوا أمورهم مع الإيرانيين عبر صفقة مخادعة- من الطرف الإيراني- تتيح لهم المشاركة مع النظام بحكومة مؤقتة، ثم تؤول الأمور لهم بعد انتهاء صلاحية الأسد على اعتبار أن الأسد بعثي علماني والإخوان يظلون مسلمين- على حد زعم الإيرانيين، وذلك مقابل تجميد كوادرهم  لأي حراك ثوري في هذه المرحلة والاقتصار على ممارسة الأعمال الإغاثية فقط.

لقد قدروا فأساءوا التقدير، وحسبوا فأخطأوا الحساب، حين ظنوا أن الأسلمة ستفضي إلى الأخونة، وأنهم سيكونون الأوفر حظا بالسلطة، فالواضح اليوم أن سورية استدارت وتحولت كثيرا، فالتطرف الذي بذر الإخوان بذرته لا يعِد الإخوان بخير، بل على العكس فرأس الإخوان موضوع تحت سكين التطرف الذي يشبه النار في الهشيم، ولم يعد الإخوان قادرين على وقف زحفها، مع أنهم هم الذين أشعلوها، ولم يعد المتطرفون يقبلون بأقل من الخلافة هدفا لهم. والإيرانيون الذين وعدوا الإخوان بالفيوضات العطائية سوف يطلبون رأس الإخوان لحكم الولي الفقيه، فليست رؤوسهم أعز عليهم من رأس الأسد وأعوانه.

والحقيقة أن الإخوان المسلمين حرصوا على كسب كل الأوراق معا وخاصة ورقة الداخل بالهجوم الإعلامي على الخارج، حتى على المعارضة التي هم جزء أساسي منها، وعلى أصدقاء الشعب السوري إرضاء للتوجه القاعدي المعادي أصلا للغرب ولدول الخليج، كما حاولوا الظهور بالمظهر اللائق أمام المجتمع الدولي بطرح صيغة المجتع المدني والدولة الديمقراطية، لكنهم وقعوا بين نارين حيث صار الداخل المُؤَسلم ينظر إليهم على أنهم علمانيون، وينظر الخارج المُعَلمن إليهم على أنهم متشددون، فخسروا الداخل، ولم يحظوا بثقة الخارج.

لقد وضع الإخوان المسلمون الثورة السورية في دائرة الحرج الشديد، لأنهم هم الذين صاغوا المشهد الثوري وفقا لأهوائهم، بحيث ظهرت الثورة على صورة طائر بجناحين جناح سياسي يتصدره الإخوان بنسبة مرتفعة، وجناح عسكري يتصدره تنظيم القاعدة وأخواتها، لكن الإخوان مغضوب عليهم عربيا، والقاعدة مغضوب عليهم عالميا، فكيف ستكون حال الثورة التي يحيط بها الغضب من كل جانب؟ وما السبيل للخلاص من هذا الحرج؟

إنها كلمة واحدة: إن أسلمة الثورة أدخلت سورية في نفق مظلم حيث توشح الوطن بالسواد، وتلطخت أرضه بالحِنَّاء، فصار لوحة تجريدية مصبوغة بالدماء، ومطبوعة بالأشلاء، يصعب على الرسّام نفسه فك طلاسمها وحل أحجياتها، وإذا أردنا للثورة السورية أن تنجح وتمر عبر الزحام العالمي ومن بوابة المعادلات الدولية (لا من تحت الشيك) فيجب أولا تغييب مسمى الإخوان من المشهد السياسي، فالأسماء لا تدخل الجنة، ويجب ثانيا إلغاء مسمى القاعدة من المشهد المسلح، فترك اللافتات لا يدخل النار، ثم العودة إلى خيارات الثورة يوم انطلاقتها، بتألقها الذي أذهل العالم، تحت راية وطنية جامعة، فالثورة لن تمر بنسختها المزيفة، والمشروع القابل للمرور والعبور هو مشروع الثورة بنسختها الأصلية قبل تزويرها.


ليست هناك تعليقات