الأدوات المحلية ومابعدها
كشفت مظاهرات الجمعة الفائتة 13 / 1 سوريين كثر داخل نطاق الثورة نفسها على مستوى الشأن العام ونوعية التعاطي معه والتموضع تجاهه وقراءة أحداثه .
وأكثر ما يجب الوقوف عنده هو نظرة الدول المحتلة لسورية أو المتدخلة بثورتها وقضيتها لهذا الحدث، وقد لاحظت من خلال متابعتي أنه تم تجاوزها كليا تقريبا، وحصر الحدث داخل الإطار المحلي فقط .
لقد أرعب ما حصل من زاوية سياسية بحتة مجموعة مهمة من الإقليمي فضلا عن الدولي، وفزعوا على مصير أدواتهم المحلية، وهم لا يهتمون البتة بكرامة أزلامهم، بل ممنوع على أدواتهم التفكير بذواتهم وفق هذا المعنى الأخلاقي، والدليل على ذلك وأقوله على سبيل التحدي، وأرجو أن أكون مخطئا فيه، إذ إني أعرف عددا لا بأس به منهم: لن يستقيل من جميع الهياكل السياسية مجتمعة بمقدار أصابع اليد الواحدة، إن حصل أصلا، بل أقسى من ذلك وأبعد ما يكونون عن الموقف الأخلاقي الشجاع فإنهم سيدخلون في حالة مكابرة وإنكار قولا وفعلا، وقد لمسنا ذلك مباشرة، وسنراه على نحو أوسع، وستبوء كل الدعوات الصادقة إلى الاستقالة بالفشل، وكم أتمنى أن يكون كلامي غير صحيح .
إن جميع الأدوات التي يتعب الإقليمي والدولي في تصنيعها لركوب إرادة ثورات الربيع العربي وحرفها عن مسارها ستسقط سريعا، وإن استعمالها لا يكاد يصلح لجولة واحدة، وخاصة في معترك الثورة السورية العظيمة .
ولا يمكن استيعاب أصحاب المسيرة الفاشلة مع الإبقاء على خط ارتهانهم وخضوعهم، وغير صحيح وغير مجد قبول أصحاب الصفات المصنعة والمفروضة على الإرادة الشعبية وكسبها لصالحنا وهي ما تزال تعمل عند أجهزة مخابرات، هذا وهم مركب، ومهم للغاية أن تعلن الثورة مجددا رفضها استقبال كل من يحمل صفة عسكرية فصائلية، أو مدنية خدمية حكومية، أو سياسية؛ في المظاهرات الشعبية، وإذا أرادوا أن يتخذوا موقفا وطنيا فليستقيلوا أولا، ثم ليعلنوا أن العمل مع الدول من غير فرز ثوري، ودون تناظر، هو أكبر خطأ ارتكبوه بحق الشعب السوري وثورته العظيمة .
والتحذير من الفراغ لا قيمة له سياسيا لأن وجود هؤلاء يعمق التبعية، وبأفضل الحالات لا يفيد وجودهم شيئا، وعدم وجودهم يربك الدول التي صنعتهم ويؤثر على أدائها، لا على الثورة، فماذا حدث عندما تم تصنيع الرياض1 ثم أنهي سوى كوارث السلال الأربعة ؟! وماذا تبع الرياض 2 غير اللجنة الدستورية المهينة لتضحيات الشعب السوري ؟! وماذا استفادت الثورة من أستانة المشؤوم غير تسليم المناطق والتهجير الممنهج؟!
الدول لا تصنع مؤسسات، بل تأتي بأتباع وأزلام .
وحجة التركيز على العصابة دون غيرها وأنها المستفيد الأول مما حدث تشبه كلام "محور المقاومة والممانعة " وسائر الأنظمة المستبدة عندما دافعت عن وجودها الديكتاتوري عبر أذرعها الإعلامية والتوجيه المعنوي والعقائدي البعثي " القومي " ضد أي تحرك شعبي نحو الحرية والكرامة، وأن المستفيد الأول من زعزعة الاستقرار " إزاحة الوخم " هو الكيان الصهيوني اليهودي والأميركي المهيمن؛ والحقيقة أنهم الخادم الأكبر للصهيوني والأميركي المتضرران الأوليان من زوالهم، والمستفيد من غير منازع هو الشعب الباحث عن سيادته، وعمن يجسدها ويكون أهلا لحملها .
وإذا غصنا قليلا في الحدث عينه فإن صاحب الصفة الائتلافية مقارنة بثلة الشباب المتظاهرين قد ارتكب خطأ سياسيا فادحا يضاف إلى جملة كوارثه التي يعاند كثيرون عمدا أو جهلا في عدم الوقوف عليها، ويصرون على تبرئته منها، فهو لم يأخذ موقفا من رأس حكومته بعد تصريحاته المقززة والغارقة في إهانة السوريين، وقد جلس مع وزير خارجية أمام أعين السوريين بطريقة لا تليق بمن يدعي تمثيلهم ويسعى لنصرة ثورتهم، ثم يأتي إليهم بكل استفزاز واستعلاء ليقول لهم: أنا معكم ! بماذا ؟! وما هذا الاستخفاف بالشعب ؟!
ثم تقفز ألسنة تريد أن تداور الرقي خبثا أو دروشة أو عاطفة لترمي ناسها بأبشع الأوصاف دون موازنة بين الأخطاء، ودون محاكمة المواقف، ودون استحضار الخلفيات، ودون اعتبار للتاريخ والمجريات، كما فعل شيوخ العصابة المجرمة في بداية الثورة عندما راحوا يطلقون مواعظهم الأخلاقية وينثرون حكمهم، ويترفعون على المتظاهرين وينهونهم عن لعن المرجوم وولده المتوحش، وينسون أو يتناسون الدماء الزكية التي تسفك، والأعراض الطاهرة العفيفة التي تنتهك، والكرامة النبيلة التي تداس، والأملاك والثروات التي نهبت، تلك لم تسترع انتباههم في النصح والإرشاد وكأنها أعمال تشع بالأخلاق الكريمة .
لا يشك أحد في صحة الكلام عن اللعن أو اللكمات، لكن هيهات هيهات في السلوك المقابل .
إن الشخص المسؤول والقارئ للحدث بدقة ومهنية يضع الأمور في نصابها وسياقها، ولا يركز على الهفوة ويترك الجريمة. والتعثر في موقف اجتماعي لا يترك دون تنبيه حتما، لكنه لا يلغي نجاحا كبيرا، وكبوة لا توازى بمن يريد أو يسهم في أن ينهي إرادة عظيمة، أو يقزمها من حيث يعلم أو لا يعلم .
تتعامل العائلات والعشائر السورية في بعض المسائل والقضايا المجتمعية بثقافة المضافات وأهل الديار من الغرباء، ولا يمكن بحال من الأحوال التقليل من هذه الثقافة ودورها الإيجابي في مناح حياتية عدة، لكنها خارج أطر تخصصات التعليم الأكاديمي وأساليبه، وتختلف عن الطب الجراحي واكتسابه، وبعيدة عن تحصيل قوانين تشييد الأبنية وسواها، وطرق التوصل إلى ذلك لا ترتبط بكون فلان ابن عائلة أو ابن عشيرة، خلط عجيب !
وأعجب منه عندما يستحق إنسان ما مساءلة قانونية على أدائه السياسي، أو على موافقته على اللجنة الدستورية واختزال الثورة بها، أو على قبوله أن يكون خيار أجهزة مخابرات لا خيارا شعبيا .
إنها لحظة فارقة في حشر الأدوات في خانتها الصحيحة، ويمكن البناء عليها في عملية المتابعة والتحصين، وذلك يستوجب فهم ما حدث، ويستوعب مقتضياته .
فما العمل ؟
سوى الاستمرار بالمظاهرات وتقويتها وتنظيمها، وضبطها من الانجرار نحو الفصائلية والهياكل المصنعة والحزبية، وتحويطها من الأشخاص المرتبطين بهؤلاء، أو بأمثالهم؛ فإنه يجب تأليف مجموعة ثورية سياسية تكون أكثر من ثلاثة وأقل من عشرة، تأخذ على عاتقها مهمة توجيه البوصلة الثورية في توضيح الأجندات المحلية المناقضة للثورة وكذلك الإقليمية والدولية بمستوى لا يقبل التأويل، ثم فعل ما يلزم وفق الإمكانات المتاحة .
لا تسعى هذه المجموعة للعلاقة مع الدول في هذه المرحلة، ولا تدعي تمثيل الثورة، ولا ترى في نفسها بديلا للهياكل المصنعة، ولا يتصدر أفرادها بسلوكهم على أنهم زعماء المستقبل، بل يركزون على واجباتهم العملية .
ويمكن أن يكونوا خارج سورية، أو داخلها، أو داخلها وخارجها معا، ومتحررون من الخوف من الاعتقال أو التضييق الأمني .
محمد سعيد سلام
ليست هناك تعليقات