آخـــر المشاركـــات

ملائكة الرحمة تضمد جراح الثورة

 








ملائكة الرحمة تضمد جراح الثورة

يا لهذه الحياة الغريبة، إذ ترمي بأشخاص مخصصين لصنع الحياة في أرض مخصصة للموت، قد عجنت تربتها بدماء الشهداء، وزاحم غبارها المتطاير أرواح الأبرياء الطاهرة، وصار الطبيب فيها كطائر يلاحق تلك الأرواح ليمنع فرارها من أجسام أصحابها كحادي الإبل، فما زال يدفعها وتدفعه حتى يغلبها فتنجوا، أو تغلبه فتفيض إلى باريها.


قد لا يهمه من أي اتجاه جاءت القذيفة بقدر ما يهمه أين اتجهت شظاياها، وقد لا يبالي من أين انطلقت الرصاصة بقدر ما يبالي أين استقرت، فيبدأ عمله من حيث ينتهي صراع السلاح ليبدأ صراع الأرواح. بمجرد أن يسمع أي شخص صوت سيارة الإسعاف فإنه يفسح الطريق أمامها، إلا الطبيب والممرضين، فعندما يسمعون صوت صفارة الإسعاف فإنهم يهرعون إليها ويقفون بانتظارها، متوقعين أخطر الإصابات وأصعب الجروح، يقفون بثبات كمقاتل ينتظر فتح باب الحصن ليهاجم وهو لا يملك فكرة عن الشيء الذي يقبع خلف السور.

فالطبيب في تلك الثواني وهو ينتظر وصول سيارة الإسعاف تمر في مخيلته كل ما قرأه في كتب التشريح ومحاضرات الجراحة، وهو متأهب لاستقبال كل أنواع الإصابات كأنه عداء ينتظر إشارة البداية لينطلق.

ما أشد ذلك الضغط المسلط على الطبيب وهو يعالج مصابا يحتضر، إذ يشعر كأنه يحاول إنقاذ غريق في بحر متلاطم الأمواج.

وعندما يفتح باب الإسعاف ويوضع المصاب بين يديه، يبدأ عندها بمزاحمة عقارب الساعة ومسابقة ثواني الوقت، فيجمع بين الحكمة والسرعة ويباشر عمله بسرعة حكيمة، وفي لحظة واحدة، يقوم بجمع التعاطف والاشمئزاز من رائحة الدم والضغط النفسي، يجمعها كلها ويضعها جانبا لكي لا تعيق عمله، ثم يبدأ بالتركيز على متطلبات الحالة، ويكون لكل عمل يقوم به أهميته في حفظ حياة المصاب، حيث يسخر كل قدراته وحواسه من سمع وبصر وكلام وحركة؛ ليوجهها على علة المصاب ومعضلته، ويكون لكل حركة مغزى ولكل إشارة معنى، فلا يقر له قرار ولا يهدأ له بال، حتى يظفر بالسيطرة على حالة المصاب ويتمكن من إنقاذه.


ما أشد ذلك الضغط المسلط على الطبيب وهو يعالج مصابا يحتضر، إذ يشعر كأنه يحاول إنقاذ غريق في بحر متلاطم الأمواج، وكلما مرت ثانية قلت فرص النجاة وزادت فرص الموت، ومما يزيد صعوبة الأمر هو أهل المصاب وأصحابه المتشحة وجوههم بالحزن والخوف وهم يحاولون استسقاء الأمل من وجه الطبيب الذي يكون هو الآخر وجهه مشحون بالتوتر والقلق، فكأن عيونهم تقول بنبرة الرجاء هذا المصاب خذه وأعده إلى الحياة، مع علمهم أن الموت والحياة بيد الله.


وأصعب من هذا كله هو استقبال عدة مصابين في وقت واحد فقد يصل العدد إلى العشرات، وهنا تكمن المهارة في تحديد من يحتاج البدء به أولا، فتصنف الإصابات إلى سهلة ومتوسطة وخطرة، وعلى ضوء ذلك يكون العمل، وقد يكون عدد المصابين أكبر من عدد الأطباء والممرضين، وهنا يمكنك أن تتخيل عظم الأمر وصعوبة الموقف في تحديد الأولى فالأولى.


فكم هو جدير بالتقدير ذلك الشخص الذي يدير هذا الموقف، ويخرج منه بأكبر ربح وأقل خسارة، وكأنه تاجر بخيل يقف على البازار لا يتخلى عن بضاعته بسهولة. أيها الرصاص المتطاير، أيتها الشظايا المبعثرة، أيها اللهيب المستعر، دونك أكوام الحجارة وأكداس الحديد بدلا من أجساد البشر.


إهداء لكل  أطباء وطني  والممرضين العاملين في ظروف الثورة .

ليست هناك تعليقات